لكي تظل محتفظًا بشيء من قواك العقلية!

. إذا كنت مدرسًا، وأخذتك العزة بالإثم، وفكّرت في أن تكتب على السبورة، معتقدًا أنك هكذا تؤدي ما عليك، وتُرضي ضميرك، وتُفيد الطلاب، وما إن استدرت للسبورة، وأعطيتهم ظهرك، لتنفذ -والنية لله وحده- ما نويت عليه، فاستمعتَ فجأة إلى أصوات نهيق، ونباح، ومأمأة، وصهيل، وبكاء لأطفال رضّع، وفرقعة، وصراخ جرحى، وأنين ثكالى ومظلومين، فلا تظن أن الطلبة الأعزاء يسخرون منك -لا سمح الله- أو يقللون من شأن إخلاصك -لا قدر الله- ولكنه بالتأكيد تليفزيون الجيران -أول جار يبعد كيلو مترًا على الأقل عن موقع المدرسة المهجور!- وقد فتحوا على "ماتش" مصارعة حامي الوطيس، فلتكمل إذن مهمتك المقدّسة، وتواصل ما تكتب؛ فالأولاد العباقرة متعطشون للنهل من فيض علمك الذي لا ينضب، وسوف يموتون كمدًا وحسرة لو لم تُكمل!
2. إذا كنت مدرسًا، وفكرت -لا قدر الله- في أن تُتحف التلامذة الأعزاء بواجب منزلي؛ للتأكُّد من استيعابهم لما تقول، فوجدت التوحُّش و"التناحة" تتوّج نظرات الجميع، والشفاه توشك أن تتحرك بما لذ وطاب من أفخر الألفاظ المنتقاة من قاموس "إكسفورد الدولي"، فلا تحزن، ولا تظن الأولاد متكاسلين، أو متهاونين، ومتقاعسين، ولكنهم فقط مشفقون عليك، وعلى صحّتك، ووقتك الثمين، ونظرك الغالي أن يُستهلك في التصحيح، والمراجعة، وتعليم الكراسات، فكن على مستوى حبهم لك، وقدّر تضحيتهم بمصلحتهم من أجلك، وألغِِ موضوع الواجب هذا، ولا تتطرق إليه أبدًا بعد اليوم!
3. إذا كنت مدرسًا، وجاءت لك بنت مفعوصة تحرّضك على مطالبة الأولاد اللطاف الظرفاء، بدفع "شلن" من كل رأس في الفصل، بدعوى شراء "طباشير"، فلا تستمع إليها، واعلم أنها جاسوسة، وساعية في خراب بيتك العامر، فمن سوف تظنه سوف يسدد ديون مصر، ويساعد مشروعاتها الاقتصادية الضخمة على الترعرع والنهوض، إن استبحت لنفسك أخذ هذا "الشلن" منهم ظلمًا وعدوانًا؟! ثم من الذي يحتاج هذا "الطباشير" بذمتك؟.. ألست أنت؟ ثم تعالَ هنا وقل لي:
في أي شيء إذن سوف تُنفق مرتبك الفاخر الذي تقبضه بملء يدك كل شهر؟!.. إذن.. فأدخِل يدك في جيبك بدون صوت تَخْرُج محملة بثمن علبة "الطباشير"، من غير سوء كلما نفد المخزون، واحذر أن تفعل ذلك إلا وأنت تبتسم في سعادة و"انشكاح".
4. إذا كنت مدرسًا، وهممت -لا سمح الله- بعقاب طالب مقصر، لا يحضر قلمًا ولا كراسًا ولا كتابًا، ولا يلتزم بموعد حصة أو فسحة، ولا يفرُغ من حديث مع زميل إلا لينهمك مع آخر في عز الشرح والمناقشة، ولا يجلس في مكانه لمدة خمس دقائق كاملة أبدًا.. فنظر لك نظرة من نوعية:
"ما تقدرش!"، وقال لك بكل كبرياء:
"إنت ملكش ضرب عليّ"، وجلس مكانه، واضعًا رجلاً على الأخرى دون حتى أن تأذن له! فلا تنفعل، أو تثور، من أجل مصلحتك أنت، وصحتك وأعصابك أنت، وحاول التماس الأسباب المنطقية التي دفعته لموقفه هذا، فهو لم يفعل ذلك إلا خوفًا على أصابعك الرقيقة من استخدام العصا الغليظة، وخشية على حسّك المرهف من رؤيته يتوجع، لذا، فقابل المعروف بمثله، وأجب على الفضل بأحسن منه، وتقدّم من تلميذك العزيز، وقَبّل رأسه فورًا، بلا ذرة تردد واحدة، وأعطه العصا بنفسك، وافتح أنت يديك، وادعه لكي يأخذ منك حقه كاملاً؛ جزاء ما أسأت الظن به، ونَبَتَ في رأسك من الأفكار الشريرة عنه.. و"أهم عصايتين ويعدوا"!!
5. إذا كنت مدرسًا، ورأيت زملاءك لا يدخلون الحصص إلا لِمامًا، وأغلب أعمالهم وأعظم بصماتهم في ملعب المدرسة؛ حيث مباريات كرة القدم وتنس الطاولة، لا يحملون دفترًا ولا كتابًا، يصفّرون بأفواههم في كل آن، ويضحكون ملء قلوبهم، ولا يحملون للدنيا همًا، وأحيانًا يختفون فجأة بالأيام والأسابيع، ولا يظهرون إلا يوم قبض "المرتب" فحسب، فلا تندهش، ولا تسئ الظن بأحد؛ فهم من فرط ثقتهم فيك يتركون لك حصصهم وطلابهم؛ أمانة في رقبتك إلى يوم القيامة، واثقين من قدراتك الفذة على تنشئة جيل هائل، يحترم المواعيد والالتزامات والمسئوليات، فأنت مندوبهم السامي، ووكيلهم في المهمات الصعبة، ونائبهم لقيادة دفة السفينة التعليمية، فاشكر الله على نعمائه عليك، وثقتهم الغالية، وشمّر عن ساعد الجد؛ لكي تدخل الـ 165 حصة التي حلّت ضيفًا على جدولك!!