التمويل ، القرض .. والفرق بينهما .
السلام عليكم ورحمة الله
وفاء بالوعد .. أستكمل اليوم كلامى عن ربا الأوراق النقدية المعاصرة (الريال والدولار وغيرهما) ، فالصحيح أن هذه النقود يحرم فيها الربا كما يحرم فى الذهب والفضة تماما ، لأن العبرة فى تحريم الربا فى النقدين الذهب والفضة ليس بلونهما أو بكونهما مخزنا للثروة ، بل لكونهما نقدا مقبولا متداولا تنتقل عن طريقهما الثروات من يد إلى يد ، ومن ذمة مالية إلى ذمة مالية اخرى ، وبالتالى فسوف يأكل الناس عن طريقهما أموال بعضهم ، وأكل أموال الناس لابد أن يكون بالحق لا بالباطل .
فإذا نظرنا إلى هذه الوظيفة - وظيفة النقود - التى ذكرناها للذهب والفضة ، نجدها متوافرة بالتمام والكمال فى الأوراق النقدية المعاصرة ، حتى ولو كانت مجرد (قيود محاسبية دفترية) .
والقيود المحاسبية الدفترية ، يعرفها أهل المحاسبة والتجارة والصيرفة ، بأن يضيف البنك فى دفاتره مبلغا من المال - مجرد قيد فى الدفاتر - يزيد به رصيد أحد العملاء ، فلو تم احتساب زيادة على هذا المبلغ الدفترى فلابد أن تكون هذه الزيادة خاضعة للمراجعة الفقهية ، هل نتجت عن بيع حلال أم لا .. لأن هذه الأموال الدفترية تنتقل بها الثروات أيضا بين الأفراد ، وعن طريقها يأكلون أموال بعضهم البعض .. وأكل مال الناس لابد أن يكون بالحق وخاليا من الربا بتعريفه الشرعى المشهور.
وأعود إلى تعريف (التمويل) ، وتعريف (القرض)..
التمويل معناه أن تمد غيرك بالمال . هذا هو التعريف اللغوى للتمويل كما هو ظاهر من الاشتقاق اللغوى : موَّل يُمَوِّل تَمويلا .
فماذا عن معناه المصرفى أو المهنى عموما ؟
التمويل فى التجارة والصناعة والصيرفة وغيرها ، لا يخرج عن مفهومه وتعريفه اللغوى الذى ذكرناه ، ولكنه يأتى فى صور متعددة :-
1- فقد يمول الوالد ولده - أى يمده بالمال - بهبة لا تُرَد ، فلا يسترد الوالد أصل المال ولا زيادة عليه.
2- وقد يمول الوالد ولده - أى يمده بالمال - بقرض حسن ، فيسترد الوالد أصل القرض دون زيادة .
3- وقد يمول البنك أحد عملائه - أى يمده بالمال - بقرض نظير زيادة متفق عليها مقدما ، فيسترد البنك أصل القرض ويحصل على الزيادة المتفق عليها مقدما .. وهذا هو القرض الربوى المحرم.
4- وقد يمول أحد العملاء البنك - أى يمده بالمال - بمبلغ يودعه فيه ليستثمره البنك لصالح العميل ، ثم يسترد العميل أصل المبلغ ويحصل على زيادة ، وهنا لابد أن نفرق بين الحالات التالية:
أولا : إذا تم الاتفاق بين البنك وبين هذا العميل رب المال على (زيادة) محددة مقدما كنسبة من رأس المال ، وضمن البنك سدادها للعميل وضمن له رأس المال ، فهذا هو القرض الربوى المحرم شرعا ، مهما كان البنك سيستثمر هذا المبلغ أو لا يستثمره .. لأن العبرة بالعقد الأول وليس باستثمار البنك للمبلغ من عدمه .. فلابد أن يتم العقد الأول بين العميل الممول وبين البنك حسب القاعدة الشرعية ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) .. فلو أراد الطرفان استثمار المبلغ وزيادته فلابد أن يأخذ الاتفاق (العقد) بينهما أحد الصور الشرعية مثل المضاربة أو المشاركة .
ثانيا: إذا تم الاتفاق بين الطرفين على أن يتسلم البنك المبلغ من العميل ليستثمره له فى التجارة أو الصناعة أو أى عمل حلال ولمدة متفق عليها ، على أن يرده إليه فى التاريخ المتفق عليه ، نظير اقتسام الأرباح التى قد تتحقق فعلا كنتيجة لهذا الاستثمار ، ويتم اقتسام صافى الربح بينهما بالتساوى أو مع التفاوت فلا بأس من الناحية الشرعية . ولايضمن البنك أموال العميل إلا إذا قصر فى حمايتها والحفاظ عليها كحماية الرجل الخبير الحريص لأمو اله الخاصة وحفاظه عليها ، فإن قصّر فى ذلك فهو يضمن رأس المال لصاحبه دون زيادة لم تتحقق فعلا .. أما إن تحققت زيادة فعلا عن فترات ونوبات سابقة وضمها العميل إلى رأس ماله لإعادة استثمارها أيضا ، فبقيت فى ذمة البنك مع رأس مال العميل ، فإن حكمها حكم رأس مال العميل .. وتسمى هذه المعاملة فى الشريعة الإسلامية بعقد المضاربة .
ثالثا: إذا تمت المعاملة بين الطرفين بمشاركة البنك للعميل فى رأس مال مشروع معين ، يتم اقتسام أرباحه كل فترة محاسبية يتفق عليها الطرفان - ولتكن كل سنة مثلا ، ويتم اقتسام الأرباح بينهما بالتساوى أو مع التفاوت - حسب التراضى عند الاتفاق - ، أو يتم توزيع الربح حسب نسبة المشاركة فى رأس المال ، فإن هذه الصورة من التمويل تعرف بالشركة أو المشاركة .
5- ما تم هنا بين الوالد وولده ، أو بين البنك والعميل ، يمكن أن يتم بينهما بالعكس ، بمعنى أن يُموّل الولد والده ، أو يمول البنك أحد عملائه ، أو يُمَوّل أحد الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين شخصا آخر طبيعيا أو اعتباريا .. فاختلاف أطراف المعاملة لا يغير من الأمر شيئا من الناحية الشرعية فى الحل والحرمة أو فى ضوابط صحة العقد .
مما سبق يتضح لنا أن (التمويل) كلمة واسعة تشتمل على جميع صور إمداد المال لمحتاجيه ، للتجارة والأعمال أو للزواج أو للحج أو لأى غرض .. ومن هنا فلا يجوز حصر معنى التمويل فى معاملة معينة يبدو لنا من شكلها أنها حديثة أو مستحدثة ، ثم ننتزع لها حكما بالتحليل عنوة أو بعيدا عن شرع الله .. بل يجب توصيف المعاملة أولا وضبطها للتوافق مع الصور الشرعية للبيوع والمعاملات المقررة شرعا ، وبالتالى إسقاط الحكم الشرعى عليها .. الحلال منها حلال ، والحرام منها حرام .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد إسماعيل جبر
اقتصاد - بنوك إسلامية - دراسات عليا
فى التمويل - دعوة إسلامية خطابة وتدريس
مواقع النشر (المفضلة)